من منظور حقوقي.. تجنيد الحريديم يثير إشكالية بين حرية المعتقد والواجبات الوطنية

من منظور حقوقي.. تجنيد الحريديم يثير إشكالية بين حرية المعتقد والواجبات الوطنية

تجنيد طلاب المدارس الدينية الحريديم يهدد بتغيير معادلة القوى ويضع حكومة نتنياهو في مهب الريح

المعارضة ترحب بالقرار واعتبرته انتصاراً لمبدأ المساواة

حقوقي تونسي: القرار يثير قضايا حقوقية تتعلق بحرية الدين والمعتقد

حقوقي فلسطيني: التطبيق سيكون معقداً وقد يؤدي إلى تفاقم الانقسامات الاجتماعية والسياسية

 

في خطوة هزّت أركان الحكومة الإسرائيلية كزلزال مفاجئ، أصدرت المحكمة العليا يوم الثلاثاء قراراً تاريخياً بإجماع كامل قضاتها بوجوب تجنيد طلاب المدارس الدينية الحريديم (الألترا أرثوذوكس) في الجيش الإسرائيلي، بعد إعفائهم من الخدمة العسكرية منذ تأسيس إسرائيل.

هذه الضربة المفاجئة لحكومة بنيامين نتنياهو تحمل في طياتها تبعات سياسية واجتماعية هائلة، تهدد بتغيير معادلة القوى داخل الدولة. 

كموجة عاتية تحطم السدود، جاء هذا القرار لينهي عقوداً من الامتيازات الممنوحة للحريديم، الذين يشكلون نحو 13% من سكان إسرائيل. 

هذه الفئة التي نمت بمعدلات ولادة مرتفعة، من المتوقع أن تصل نسبتها إلى 19% بحلول عام 2035، ما يجعل قرار تجنيدهم ليس فقط قضية قانونية، بل استراتيجية بامتياز. 

وفي ظل حرب غزة المستمرة منذ أكثر من ثمانية أشهر، يبدو أن المحكمة رأت في قرارها ضرورة لمواجهة الإنهاك الذي تعانيه القوات المسلحة الإسرائيلية. 

مثل سهم مصوب بدقة، استهدف هذا القرار صميم السياسة الحكومية لنتنياهو، الذي يعتمد في بقائه على دعم الأحزاب الحريدية.. ويشكل حزب "يهدوت هتوراة"، المكون من حزبي "ديغيل هاتوراه" و"أغودات يسرائيل"، عموداً فقرياً لهذا الدعم، ويعتبر إعفاء الحريديم من التجنيد حجر الزاوية في تحالفه مع نتنياهو لذا، فإن هذا الحكم يهدد بتفكيك هذه التحالفات وترك الحكومة في مهب الريح. 

ردود فعل سريعة وغاضبة

رئيس حزب يهدوت هتوراة الوزير مائير بوروش، أكد أن "لا توجد قوة في العالم يمكنها إجبار شخص تتوق روحه لدراسة التوراة على الامتناع عن ذلك". 

في المقابل، رحبت المعارضة بهذا القرار، واعتبرته انتصاراً لمبدأ المساواة في تحمل الأعباء الوطنية. 

رئيس حزب إسرائيل بيتنا أفيجدور ليبرمان، وصف القرار بأنه خطوة مهمة على الطريق نحو التغيير التاريخي، مشيراً إلى أن الجيش الإسرائيلي في أمسّ الحاجة إلى المزيد من المجندين لتقاسم العبء. 

إن هذا القرار القضائي يشبه إشعال فتيل في برميل بارود، حيث لم يحدد قضاة المحكمة كيفية تنفيذ حكمهم، تاركين للحكومة مهمة شاقة ومعقدة، ومن المتوقع أن تواجه الحكومة تحديات هائلة في محاولة إدماج الحريديم في الجيش دون الاصطدام بثقافتهم وتقاليدهم الدينية الصارمة. 

هذه المهمة تبدو وكأنها السير على حبل مشدود فوق وادٍ سحيق، حيث أي خطوة خاطئة قد تؤدي إلى انهيار الائتلاف الحكومي. 

ويحمل هذا القرار تداعيات اجتماعية عميقة، إنه يعيد فتح النقاش حول الهوية الوطنية لإسرائيل، ويمس جوهر العقد الاجتماعي بين الدولة ومواطنيها، ويعكس القرار رغبة في إعادة توزيع الأعباء الوطنية بشكل أكثر عدالة، لكنه في الوقت ذاته يثير مخاوف من ردود فعل عنيفة قد تؤدي إلى اضطرابات داخلية، في هذا السياق المتوتر، تبقى العيون مسلطة على كيفية تعامل نتنياهو وحكومته مع هذا الحكم. 

مرحلة جديدة من الصراع

القرار الأخير سيدخل إسرائيل في مرحلة جديدة من الصراع السياسي والاجتماعي، حيث تتشابك الأسئلة حول العدالة والمساواة مع تحديات البقاء والأمن. 

في نهاية المطاف، يبدو أن المحكمة العليا قد أطلقت شرارة لن تنطفئ قريباً، وهي شرارة قد تعيد تشكيل المشهد السياسي والاجتماعي في إسرائيل بطرق لم تكن متوقعة. وكما قال رئيس حزب العمل يائير جولان: "هذه الحكومة تشكل خطراً فورياً واضحاً وملموساً على أمن إسرائيل". 

أسباب الإعفاء من الخدمة العسكرية.. عاداتهم وامتيازاتهم

يشكل اليهود الحريديم، أو الألترا أرثوذوكس، شريحة مهمة ومعقدة من المجتمع الإسرائيلي. تعكس حياتهم اليومية التزاماً صارماً بالشريعة اليهودية، ما جعلهم يتمتعون بامتيازات خاصة وأثار العديد من النقاشات حول دورهم في المجتمع، وخاصةً في ما يتعلق بالخدمة العسكرية. 

وأسباب عدم خدمتهم في الجيش الإسرائيلي الإعفاء من الخدمة العسكرية لليهود الحريديم يعود إلى عدة أسباب جوهرية تعكس تعقيد العلاقة بين المجتمع الحريدي والدولة الإسرائيلية.

أولاً، يعتبر الحريديم أن دراسة التوراة هي واجب ديني يتفوق على أي واجب آخر، بما في ذلك الخدمة العسكرية، يرون في التوراة عمود الحياة اليهودية، ودراستها تُعَدُّ حماية روحية لإسرائيل تعادل أهمية الحماية العسكرية. 

ثانياً، يخشى الحريديم من التأثير الثقافي السلبي الذي قد ينجم عن الاختلاط بالمجتمع العلماني داخل الجيش، يعتقدون أن البيئة العسكرية قد تفرض تحديات على هويتهم الدينية، وأن التجنيد قد يؤدي إلى تآكل القيم والتقاليد الصارمة التي يلتزمون بها. 

ثالثاً، يعود الإعفاء إلى اتفاق تاريخي تم بين القادة الدينيين ودافيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، حيث رأى في إعفاء طلاب المدارس الدينية مصلحة وطنية تسهم في بناء دولة إسرائيل.

والحريديم يعيشون حياة متميزة بالتزام صارم بالشريعة اليهودية، وهو ما ينعكس في جميع جوانب حياتهم اليومية. 

الرجال يرتدون ملابس سوداء تقليدية وقبعات، بينما النساء يرتدين ملابس طويلة ومحتشمة. 

الفصل بين الجنسين هو قاعدة أساسية في مجتمع الحريديم، حيث يتم فصل الرجال والنساء في الأماكن العامة والمناسبات الاجتماعية والدينية. 

أما التعليم في مجتمع الحريديم فيركز بشكل كبير على الدراسات الدينية، الرجال يقضون سنوات طويلة في دراسة التوراة والتلمود في المدارس الدينية المعروفة باليشيفوت. 

هذه المؤسسات التعليمية ليست مجرد مدارس، بل هي مراكز روحية وثقافية تؤسس لفهم عميق للدين والتقاليد اليهودية، كما أن الحريديم يعيشون في مجتمعات مغلقة، غالباً في أحياء خاصة بهم، ما يعزز تماسكهم الاجتماعي والديني ويقلل من تأثير الثقافات الخارجية عليهم. 

ومنذ تأسيس إسرائيل، حظي الحريديم بعدة امتيازات نتيجة لاتفاقيات تاريخية وتصميم سياسي يهدف إلى الحفاظ على طابعهم الديني الفريد، من أهم هذه الامتيازات الإعفاء من الخدمة العسكرية، الذي يتيح لهم التفرغ لدراسة التوراة دون الانخراط في الخدمة العسكرية الإلزامية. 

الدعم المالي هو امتياز آخر مهم، حيث توفر الحكومة الإسرائيلية مساعدات مالية لمؤسساتهم التعليمية والدينية. هذه المساعدات تشمل تمويل المدارس الدينية (اليشيفوت) ودعم الأسر الكبيرة، التي تعتبر سمة مميزة لمجتمع الحريديم نظراً لارتفاع معدلات الولادة بينهم. 

يُساعد هذا الدعم في مواجهة التحديات الاقتصادية وتوفير بيئة مستدامة للحريديم للحفاظ على تقاليدهم ونمط حياتهم، كما يتمتع الحريديم بنظام تعليمي مستقل يتماشى مع تقاليدهم الدينية، هذا النظام يمنحهم الحرية في صياغة مناهجهم الدراسية بما يتناسب مع قيمهم الدينية، بعيداً عن التأثيرات العلمانية. يتيح لهم هذا الامتياز الحفاظ على هويتهم الثقافية والدينية الخاصة. 

بعد أزمة التجنيد الإجباري.. يهود الحريديم صداع جديد في رأس نتنياهو

 

القرار انتهاك لحرية الدين والمعتقد لديهم

بدوره، قال رئيس المركز التونسي لحقوق الإنسان مصطفى عبدالكبير، إن قرار المحكمة العليا الإسرائيلية بإجماع كامل قضاتها بوجوب تجنيد طلاب المدارس الدينية الحريديم في الجيش الإسرائيلي، يمثل تحولاً كبيراً في السياسة الإسرائيلية ويثير العديد من التساؤلات الحقوقية والسياسية.

وفي تصريحاته لـ"جسور بوست"، أكد أنه من منظور حقوق الإنسان، يعكس قرار المحكمة محاولة لتحقيق مبدأ المساواة في الواجبات الوطنية، فالخدمة العسكرية في إسرائيل إلزامية لجميع المواطنين اليهود، واستثناء الحريديم لسنوات طويلة أوجد فجوة كبيرة في توزيع الأعباء الوطنية. 

وتابع، القرار يهدف إلى تصحيح هذا الوضع، ليضمن أن جميع المواطنين يتحملون المسؤوليات الوطنية بالتساوي، ومع ذلك يثير القرار قضايا حقوقية تتعلق بحرية الدين والمعتقد، فالحريديم يعتبرون أن دراسة التوراة هي واجب ديني يتفوق على أي واجب آخر، ويخشون من أن الخدمة العسكرية قد تؤدي إلى تآكل هويتهم الدينية والثقافية.

وأتم: من هذا المنظور، يمكن اعتبار إجبارهم على الخدمة العسكرية انتهاكاً لحقهم في حرية الدين والمعتقد، وهي حقوق محمية بموجب القوانين الدولية لحقوق الإنسان. 

مصطفى عبد الكبير

تحدٍ كبير للحكومة الإسرائيلية

وعن الأزمات التي قد يخلقها القرار، تحدث الحقوقي الفلسطيني محمود الحنفي بقوله إن القرار سيخلق تحديا كبيرا للحكومة الإسرائيلية، وخاصة لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وائتلافه الحاكم الذي يعتمد بشكل كبير على دعم الأحزاب الحريدية، هذه الأحزاب ترى في الإعفاء من الخدمة العسكرية جزءاً لا يتجزأ من التزامها تجاه ناخبيها، وأي محاولة لتغيير هذا الوضع قد تؤدي إلى انسحابها من الائتلاف الحكومي، مما يهدد استقرار الحكومة. 

وتابع في تصريحاته لـ"جسور بوست": تنفيذ هذا القرار قد يؤدي إلى اضطرابات اجتماعية، الحريديم يعيشون في مجتمعات مغلقة ويتمتعون بنظام تعليمي مستقل، وأي محاولة لدمجهم في الجيش قد تثير احتجاجات واسعة، هذه الاضطرابات قد تؤثر سلباً على النسيج الاجتماعي في إسرائيل وتزيد حدة الانقسامات داخل المجتمع الإسرائيلي.

وعن مدى قابلية القرار للتنفيذ، أشار إلى أنه يواجه تحديات كبيرة على عدة مستويات، أولها القانوني، فعلى الرغم من أن القرار صادر عن أعلى هيئة قضائية في البلاد فإن تحويله إلى قانون يتطلب دعماً سياسياً قوياً في الكنيست، مع المعارضة الشديدة من الأحزاب الحريدية وبعض الفئات الأخرى قد يكون من الصعب تمرير التشريعات اللازمة لتنفيذه.

الحنفي لـ

محمود الحنفي

وأضاف: المجتمعات الحريدية تتميز بتماسكها الداخلي ورفضها للتغيير الخارجي، أي محاولة لإجبارهم على الخدمة العسكرية قد تواجه مقاومة شديدة، مما قد يؤدي إلى احتجاجات واسعة واضطرابات اجتماعية، كذلك على المستوى الإداري ستحدث مشكلات أيضاً، فالجيش الإسرائيلي يحتاج إلى وضع آليات جديدة لإدماج الحريديم بشكل يتناسب مع تقاليدهم الدينية، هذا يتطلب تغييرات في البنية التحتية العسكرية وبرامج التدريب، وهو ما قد يكون مكلفاً ومعقداً. 

واستكمل: إذا لم يتم تنفيذ القرار بطريقة مدروسة وحساسة، فإنه قد يؤدي إلى تفاقم الانقسامات الاجتماعية والسياسية في إسرائيل، والمعارضة الشديدة من الحريديم والاضطرابات المحتملة قد تؤدي إلى زعزعة الاستقرار السياسي والاجتماعي في البلاد.

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية